الاثنين، 25 يونيو 2012

النبي صلى الله عليه وسلم والسياسة

 .



االنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم سياسي من طراز رفيع أسّس اعظم بنيان حضاري للانسان... ولم يزل منهج ودستور الدولة والامة التي انشأها حيا نابضا بيننا ينتظر العقل المستثمر والبصيرة الواعية والفكر المدرك ليريح البشرية من جديد من حضارة المادة الصرفة التي همشت الانسان وابادت الخلق والاخلاق بحجة الديمقراطية...
والسياسة التي مارسها عليه افضل الصلاة واتم التسليم تستند اساسا على الوضوح والصدق في التعامل وعلى مصلحة الدعوة والعقيدة الصافية النقية وعلى مصلحة الجماعة المسلمة والدولة المسلمة والامة الاسلامية... فهي الرؤية الواضحة المشتركة مع كل اتباعه وهي الثوابث التي لا تنازل عنها مهما اشتد الخطب وعصفت المحن وهي الانجاز والنصر والتمكين والثبات.
ومحور البناء والمشروع برمته الرجل الصادق الامين المؤمن المتيقن من نصر الله عز وجل ومن ثم الرجال من صحبه والجماعة والدولة من بعد من حوله ومن جوانب سياسته صلى الله عليه وسلم:

- مارس النبي صلى الله عليه وسلم السياسة من أول يوم من بعثته فأوجد الجماعة السرية ثم الجماعة العلنية التي تدعو إلى تغيير نظام المجتمع وعقيدته، واستخدم كل وسائل الإعلام من خطبة واتصال فردي وحرب إعلامية بالشعر وغيره، وهذا كله من السياسة.

- كتابة وثيقة المدينة.

- تعيين الولاة والقضاة وإرسال الرسل إلى ملوك الدول الغير إسلامية، وهذا كلهُ من السياسة.

- صلح الحديبية كمثال لقدرته السياسية صلى الله عليه وسلم:
لم يكن النبي القدوة صلى الله عليه وسلم رسولاً لأشرف رسالة فقط بل كان أيضا سياسيا من الطراز الأول, وأكد أنه أفضل من أجاد كسب المعارك السياسية في التاريخ.
وجاءت أول عمرة للمسلمين في مكة لتكون أبرز مثال على المهارة السياسية وقدراته في التفاوض حتى أرغم "قريش" على الرضوخ لشروطه وإبرام عقد الصلح معه.
في هذه المرحلة أيضا ضرب الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم أول مثل لأسلوب الهجوم بالسلام ليجبر عدوه على الرضوخ لما يريده طالما أن هدفه الأسمى هو توصيل الرسالة ودخول العرب جميعاً إلى الإسلام..

مأزق قريش:
أن قرار الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوجه إلى مكة لأداء العمرة، أحرج "قريش " فقد كان أمام القبيلة التي تقود الجزيرة العربية، حل من ثلاثة لمواجهة هذا المأزق..
الحل الأول :تخيل أنني أحاربك لمدة 6 سنوات ثم فوجئت بي أمام باب مكة، وأنا أرتدي ملابس الإحرام وأقول: "لبيك اللهم لبيك" وزعامة قريش الدينية تقوم على فكرة أنها لا تمنع أحداً جاء إلى مكة لكي يعتمر.
فكان أمام قريش أن تمنع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم من أن يدخلوا البيت الحرام لأداء العمرة، فإذا ما فعلت ذلك فإنها تفقد زعامتها الدينية في الجزيرة العربية.
وقريش أشاعت أن محمدا وأصحابه متمردون وخارجون على القانون والنظام، فإذا ما رفضت قريش دخولهم مكة، فإن القبائل سوف تتعاطف مع محمد وأصحابه، وستبدأ الجزيرة العربية في الاستماع إليه.
البديل الثاني: أمام قريش كان أن تترك محمدا وأصحابه يدخلون مكة.. وهذا انتصار له، حيث أن ذلك يعني أن مشاكله مع قريش سويت، وأن على العرب أن يستمعوا إليه.
البديل الثالث: أن ترفض دخول محمد إلى مكة على أن تتفق معه على صلح لا يدخل بموجبه مكة ففي ذلك العام، لكن يدخلها في العام التالي.. وهذا انتصار أكبر لمحمد حيث إن إبرام الصلح
يعني أنه لم تعد هناك مشكلة تحول دون دخول العرب في الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بهذه البدائل كلها يكسب الحرب الدبلوماسية أو السياسية مع قريش.
الأبعاد السياسية لأول عمرة:
هل وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه "سياسي" ينال من جلال مكانته؟
هذا الوصف ليس عيبا.. فالنبي أفضل من أجاد كسب المعارك السياسية في التاريخ.. إذن العمرة كان لها بعد سياسي خطير في الوصول إلى الهدف.. وهو توصيل الرسالة.
لم يكن أمام قريش سوى حل واحد وهو أن تذيع على الناس أن محمدا لم يأت لأداء العمرة لكنه جاء للحرب.
لكن النبي وضع خطة مضادة تفسد على قريش اللجوء إلى ذلك الحل.

ما تفاصيل هذه الخطة؟
تفاصيلها أن النبي خرج في شهر من الأشهر الحرم، ومعنى ذلك أنه لن يحارب، إلى جانب أنه لم يخرج إلى العمرة بالمسلمين وحدهم، إنما خرج ومعه وفود من القبائل المحيطة بالمدينة من غير المسلمين كانوا يرغبون في أداء العمرة.. فإذا كان خارجا للحرب فإنه كان سيخرج بالمسلمين فقط.
وهذا درس لنا ينبغي أن نستوعبه جيدا، أن نعمل على إشراك الآخرين معنا في قضايانا المصيرية، فنشرك الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، وندخل في شراكات مع الكتل الإقليمية، لنجعل قضيتنا محور اهتمامهم.

التهديد بفضح قريش:
ما دلالة إشراك غير المسلمين في العمرة؟
دلالة ذلك أن النبي قادر على التعايش مع غير المسلمين طوال الرحلة المضنية من المدينة إلى مكة، فإذا ما منعت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم ومن جاءوا معه من أداء العمرة، فإنها تكون قد منعت العرب، وليس المسلمين وحدهم، من أداء شعائرهم الدينية.
إضافة لذلك اصطحب النبي معه "الهدي" والهدي هي الخراف التي ستذبح.. وقد اصطحبها معه إثباتا لحسن النية، فلو منعوه وأصحابه من دخول مكة، فإنه سيقوم بذبح خراف الهدي تنفيذا لأوامر الله سبحانه، واصطحاب الهدي سياسة عميقة تدل على حسن النية أمام العرب جميعا، إضافة إلى ما تتضمنه من تهديد بفضح قريش.
إنه صلى الله عليه وسلم كان يجبر "قريش" على الرضوخ للسلام، كان يهاجمها بالسلام، وكان يستطيع أن يحشد جيشا للقضاء عليهم، لكنه لم يكن هناك داع حقيقي للجهاد، كانت الروح المعنوية للصحابة في ذروتها، وكانوا يتوقون إلى الاستشهاد.
وحين ارتدى النبي صلى الله عليه وسلم ملابس الإحرام وساق الهدي أمامه وقال: إني مرتحل للعمرة فتجهزوا، فيقوم 1400 صحابي بالاستعداد للسفر إلى مكة ومعهم هديهم، كل من المهاجرين يشتاق إلى رؤية بيته في مكة، ورؤية مسقط رأسه وموطنه.. ولا يعرف هذا الشعور إلا الذي قاسى البعد عن وطنه، ولا يستطيع السفر إليه.

كمين خالد بن الوليد :
ماذا فعلت قريش عندما علمت بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى مكة؟
أقسمت قريش: لا يدخل علينا أبدا، وجهزت كتيبة من مائتي فارس مسلح، بينما النبي ليس معه إلا 40 حصانا بفرسانها، بأسلحة غير قتالية أو شخصية لحماية المسيرة، وعينوا خالد بن الوليد قائدا لفرسان قريش، ليلتقي بالمسلمين في الطريق قبل أن يصلوا إلى مكة، حتى لا تبدو قريش وقد منعت محمدا وصحبه من أداء الشعائر الدينية.
يخرج خالد بن الوليد بفرسانه ويقبع في منطقة على الطريق إلى مكة لانتظار النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه.. لكن عيون النبي صلى الله عليه وسلم ومخابراته أخبروا النبي بموقع كمين خالد بن الوليد.. وقالوا للنبي: إن خالدا وجنوده قد لبسوا لباس الحرب وأقسموا ألا تدخل مكة أبدا حتى يموت آخر رجل منهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشيروا عليَّ أيها الناس"؟
القائد يعطي لجنوده وشعبه حق المشورة فيمنحه شعبة القوة.. ويقف أبو بكر الصديق رضي الله عنه ويقول: يا رسول الله والله ما خرجنا لنقاتل الناس ولكن خرجنا للعمرة، فإن قاتلونا قاتلناهم حتى نعتمر، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم.. ثم نادى.
"من رجل يدلني على طريق، وإن كان وعرا أتجنب به خالد والفرسان"؟
فيخرج صحابي ويقول: أنا أعرف طريقا يا رسول الله لكنها وعرة، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم، نذهب إليها "ويتجه النبي وصحبه إلى تلك الطريق، ويتوغل بوفده حتى يصل إلى منطقة اسمها الحديبية، فينتبه خالد بن الوليد إلى خطة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن يكون النبي وصحبه قد وصلوا إليها فيعود مسرعا بالفرسان لإنذار قريش، وبهذا تكون خطتهم قد فشلت.

رسالة السلام:
وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مشارف مكة ومعه أصحابه من المسلمين وغير المسلمين – وإن كانوا قلة- ومعه الهدي، وهم يلبسون ملابس الإحرام ويصيحون بالتلبية: "لبيك اللهم لبيك".. يريدون أن يعتمروا.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أسمي محمد بن عبد الله، وجدي هو الذي حفر بئر زمزم، والذين معي هم أهل مكة، فهل ستمنعون دخولنا على مرأى من العرب؟ أم ستتركوننا ندخل فيسمعني العرب؟ أم ستوقعون الصلح معي وأيضا يسمعونني"؟
جمعت قريش قادة الجزيرة العربية بمجرد علمها بوصول محمد. فيأتي قائد خزاعة أديب بن ورقاء، ويأتي قائد الأحابيش حديث بن علقمة، ويأتي قائد ثقيف من الطائف عروة بن مسعود "الذي سبق أن رد على النبي صلى الله عليه وسلم ردا قاسيا عندما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام".. ويجتمع هؤلاء في دار الندوة ومعهم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو.. قادة العرب مع قادة العرب مع قادة قريش، وغاب أبو سفيان عن اللقاء . أين كان أبو سفيان؟ لم يحضر...
انكسر بعد غزوة الخندق، فتهمش دوره مرحليا في الحديبية، وانتقلت القيادة منه إلى الشباب الطائش،

سر ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم:
عند الحديبية أثناء سير الركب، بركت ناقة النبي، فقالوا لها: "حل حل" لتنهض فتقوم من مكانها ثم تبرك مرة أخرى. فظنوها عصيت الرسول صلى الله عليه وسلم.. فقال النبي ما خلأت "القسواء" – أي ما عصيت – وما ذلك لها بخلق ولكن حسبها حابس الفيل "فيل أبرهة" عندما توقف تعظيما للبيت الحرام، ومعنى أن تبرك ناقة الرسول، أنها إشارة بأن دخولها سيسبب صداما، ونحن نريد السلام لا الصدام، فبقى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان، ويقول: "لن ندخل.. انتظروا".
والصحابة تنتقل مشاعرهم من حال إلى حال.. فمرة يقال لهم أنتم ذاهبون إلى العمرة، ثم يقال لهم: هناك قتال.. ثم يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم أن ينتظروا دون عمرة أو قتال، وهم يطيعون الأوامر في كل حال.
ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والله لا تدعوني قريش إلى خطة "صلح" يعظم فيها صلة الرحم إلا أجبتهم إليها." هو يريد الصلح، يريد توصيل الرسالة للدنيا.
معجزة البئر:
بين الحديبية ومكة تسعة أميال وعندما وصل الرسول وصحبه كانوا يشعرون بعطش شديد، فسأل النبي: "أيوجد هنا بئر"؟ قالوا: توجد بئر جفت يا رسول الله.
قال: "أمعنا ماء"؟ قالوا: قليل جدا، قال: "ائتوني به"، فجيء بالماء وتوضأ النبي في هذا الماء ثم ظل يدعو ويدعو ثم قال: "ألقوا الماء في البئر" , ثم أخذ سهما من كنانته وقال: "أغرسوا السهم في قاع البئر" ، فغرسوا السهم، فانفجرت البئر بالماء فظل الألف وأربعمائة رجل يشربون ويغتسلون منه لمدة 20 يوما، حتى غادروا الحديبية.
طوال الرحلة من المدينة إلى الحديبية كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدو في صورة السياسي البارع، وكان لابد من معجزة لنتذكر أنه النبي صلى الله عليه وسلم!!.. وقصة السهم وتفجر الماء من البئر ذكرها البخاري ، ولا يزال المستشرقون في دهشة من هذه المعجزة!!

فن التفاوض:
كيف تصرفت قريش أمام هذه الشجاعة والإقدام من النبي صلى الله عليه وسلم وحكمته السياسية؟
قرروا إرسال من يفاوضه.. لكن النبي صلى الله عليه وسلم يبادرهم بإرسال صحابي اسمه خراش بن أمية وأمره أن يذهب إليهم راكبا ناقة الرسول وقال له: "قل لهم إني جئت معتمرا ومعي الهدي ولم آت لحرب، وأني سأرتحل بمجرد أن أنهي عمرتي".
لكنه لم يقل لهم أنه يرغب في إبرام معاهدة صلح، لأنهم لم يتهيئوا لذلك بعد، وحتى لا يخسر ميزة تفاوضية.
والمفاوضات علم و فن، والنبي صلى الله عليه وسلم يمتلكها. بدأت المفاوضات بعد ذلك بأن أرسلوا أول مفاوض لاستطلاع فكره وشروطه، قال لهم: خلوا بيني وبين الناس، أي أتركوني أتحدث إلى الناس، ولم يتنازل عن هذا الشرط .

لم آت للحرب :
أول مفاوض جاء كان سيد خزاعة "بديل بن ورقاء" وحين رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال": هذا رجل عاقل."
قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قل لهم إني لم آت للحرب ولا أريد قتال أحد ولكني جئت للعمرة".قل لهم إن قريشا أنهكتها الحرب وأضرت بمصالحها.قل لهم إن شئتم أن تماددوني مدة "أي إبرام صلح لمدة معينة" قبلت ذلك.وقل لهم أن يخلوا بيني وبين الناس.قل لهم إن شئتم أن تدخلوا فيما سيدخل فيه الناس من دين الله أسعد بذلك.قل لهم إن أبوا أن يخلوا بيني وبين الناس أو يماددوني مدة فو الله الذي لا إله إلا هو لأقاتلنهم حتى تنفرد سريرتي -أي تقطع رقبتي."-
فقال بديل: قد وعيت ما قلته يا محمد، فذهب إليهم وقال: أيها الناس لا تقفوا أمام هذا الرجل هو والله يدعوكم إلى خير الدنيا، فقال عكرمة: لا تخبرنا عنه ولكن أخبره عنا أنه لم يدخل علينا مكة عنوة فتعرف العرب أنه دخل غصبا عن قريش.
فقال عروة بن مسعود سيد ثقيف:
ما هذا يا عكرمة.. عجبا أترفض أن تسمع ما قاله الرجل؟.. فقال: قل، فقال بديل: الرجل يعرض السلم وليس داعيا إلى الحرب، وقد جاء للعمرة، وأنا أقول لكم: خلوا بينه وبين الحرم وإني مرتحل بمن معي من خزاعة.. وهكذا فتت النبي صلى الله عليه وسلم تحالف القبائل.
ثم أرسلوا للنبي مكرز بن حفص، فقال النبي حين رآه: "هذا رجل غادر"، وكرر النبي له نفس الكلام، ثم أرسلوا سيد الأحابيش فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذلك رجل يعظم شعائر الله، أطلقوا الهدي أمامه وارفعوا أصواتكم بالتلبية"، فيعود الرجل أدراجه ويقول لهم: أتدعون سفلة قريش يطوفون بالبيت ويمنع ابن عبد المطلب. الرجل جاء للعمرة والله لا يمنه، إن منع هلكت قريش. ويذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود يفاوضه، يريد أن ينتزع لقريش أكبر مكاسب ويقلل من مكاسب النبي صلى الله عليه وسلم.. ثم أخيرا يذهب أبو سفيان سيد قريش الذي أبرم صلح الحديبية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق